الجنوليون=٢

يظل في خدمتهم مؤثرا لهم بأطيب ما تجمع له من فن وعلم ومال، ولا يدعهم حتى يشبعوا من شميمه ونعيمه، ثم يأذنوا له، فيعود راضيا مرضيا.

تنزع بالجنولي طائفة من الأهواء المختلفة المؤتلفة معا، ربما استحال على غيره الصمود لها -فكيف بأن يشتمل عليها-: يجمع الفن والعلم إذ يجمع المال، ويحب الغرباء إذ يحب القرباء، ويقيم في وطنه إذ يرحل عنه!
نعم؛ فأما الهوى الأول فأن يغدو إلى مزرعة حقله كل يوم ويروح على كتاب قريته، أو يغدو على كتاب قريته ويروح على مزرعة حقله، لا يمل حتى تزداد مساحة أرضه ويتم حفظ كتاب ربه، ويقبل في الجامع الأزهر؛ فلا يكاد إذا آب يضع ثيابه حتى يطمئن على زراعة أرضه ومشاركة غيره في بهائمه. ثم إذا ما تخرج في معهده الأزهري وارتاب في فرصته العليا التحق بركب مدرسة الصيارف، ليتخرج صرافا خبيرا يقدّر الضرائب ولا يخشى في تحصيلها أحدا إلا الله، ويتزوج، وينفتح له باب كلية الشريعة والقانون وهو مقسم النفس على عمله وأسرته ومرابحه وعائلته، فيصبر عليها، وينهل من مددها حتى يتخرج فيها مقابَلا بين الفن والعلم، ويأبى أن يترك عمله إلى أن تعن له فرصة التدريس بالمنطقة الشمالية الشرقية من المملكة العربية السعودية، فيكاد يصبر وحده عليها عشر سنوات، ليعود بعدها إلى ما كان عليه قبلها أرغد حالا وأكثر أشغالا.
وأما الهوى الثاني فأن يتطلع إلى الزواج من غير بنات عائلته، زهرة عائلتها الوسيمة القسيمة البهية الحسيبة النسيبة الرضية، ويستولي على لبها هي وأبيها حتى يزوجه إياها على صغر سنها وشدة غرارتها مدللة مصونة مخدومة، لا تعرف الخبز من العجين، ولا الحب من الطحين؛ فيرحل بها إلى حيث يستحدث بلدا وبيتا وعملا وزملاء وأصدقاء مسلمين ونصارى متدينين ودنيويين.
وأما الهوى الثالث فألا يقر له بمقام قرار حتى يتفلت منه إلى عائلته -مهما خلف فيه من أسرته- فيظل في خدمتهم مؤثرا لهم بأطيب ما تجمع له من فن وعلم ومال، ولا يدعهم حتى يشبعوا من شميمه ونعيمه، ثم يأذنوا له، فيعود راضيا مرضيا.
ثم أما الجنولية فبها من مثل تلك الأهواء المختلفة المؤتلفة، ما لو مُزج بحديث أهواء الجنولي لمَزجه، وغَلب عليه!

Related posts

Leave a Comment